ما الذي جنته البشرية من استكشاف الفضاء؟

المصدر: سومين فالوكوفاتايتين موزيو – يوري جارجرين
في العام 1961، أصبح رائد الفضاء السوفيتي وطيار الاختبار والفني الصناعي، يوري أليكسييفيتش جاجارين (Yuri Alekseyevich Gagarin)، أول إنسان يسافر إلى الفضاء، ويدور حول كوكب الأرض على متن المركبة الفضائية “فوستوك 1” (Vostok 1)، حيث أمضى ساعة و48 دقيقة في الفضاء، ودار حول الأرض بارتفاع بلغ أقصى حد له 327 كيلومتراً، مستخدمًا نظام التحكم الآلي التام.
وتم الاحتفال بهذا الحدث التاريخي بمنح جاجارين وسام لينين ولقب بطل الاتحاد السوفيتي. وتبع ذلك إنشاء نصب تذكاري وإعادة تسمية شوارع باسمه تكريمًا له في الاتحاد السوفيتي، مما جعله على الفور من المشاهير في جميع أنحاء العالم. وقد توفي جاجارين في العام 1968 أثناء رحلة تجريبية روتينية للطائرات النفاثة، ووضع رماده في جدار الكرملين في موسكو. وفي العام 1963، حقق الاتحاد السوفيتي أيضًا رقمًا قياسيًا جديدًا بإرسال أول امرأة، هي فالنتينا تيريشكوفا (Valentina Tereshkova)، إلى الفضاء على متن المركبة “فوستوك 6”.
وفي العام 1961 نفسه، أعلن الرئيس جون كينيدي عن هدف وطني يتمثل في هبوط أول إنسان على سطح القمر والعودة بأمان بحلول نهاية العقد، واستغرق الأمر أقل من عشر سنوات لتحقيق هذا الهدف.
المصدر: وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) – طاقم أبولو 11
وفي 16 يوليو 1969، انطلق كل من نيل أرمسترونج (Neil Armstrong) وإدوين “باز” ألدرين (Edwin “Buzz” Aldrin) ومايكل كولينز (Michael Collins) في رحلة فضائية على متن المركبة “أبولو 11″، وبعد أربعة أيام هبط أرمسترونج وألدرين على سطح القمر في الوحدة القمرية “النسر” (The Eagle)، مما جعل نيل أرمسترونج أول إنسان يخطو بقدمه على سطح القمر. ومكث كولينز لبعض الوقت في المدار القمري يقوم بتجارب والتقاط بعض الصور. وسار كل من أرمسترونج وألدرين لمدة ثلاث ساعات على سطح القمر لإجراء هذه التجارب والتقاط بعض الأتربة والصخور من القمر. كما قاما بوضع العلم الأمريكي وتركا لوحة على سطح القمر، ثم عادا إلى المدار، وانضما إلى كولينز، وعادوا جميعًا إلى الأرض بسلام في 24 يوليو 1969.
المصدر: وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) – إدوين ألدرين
لم يكن هذا الإنجاز التاريخي ممكناً بدون الكم الهائل من التضحيات اللازمة لتحقيقه. فقد توفي رواد فضاء ومرشحون لمهام رواد الفضاء في حوادث تحطم طائرات أو اختبارات لمركبات، ولقي العديد من أفراد الطواقم الأرضية والعمال في وكالة ناسا حتفهم في حوادث أخرى، وتوفي العشرات من الطيارين في الاختبارات التي أجريت في العقود التي سبقت وصول أبولو إلى سطح القمر، وذلك كله في إطار الجهود المبذولة لتحقيق الريادة في سباق الفضاء وهبوط أول إنسان على القمر. وفي خضم السعي لإنجاز هذه الرحلة التاريخية، كانت الشكوك تحوم حول جدوى القيام بذلك، وخاصة في ظل العدد الكبير من الأرواح والأموال التي فقدت في هذه العملية. فقد كانت التضحيات التي حدثت أثناء مهمة الهبوط على سطح القمر وقبل ذلك بمستوى وحجم غير مسبوقين، ومن غير المرجح أن تتكرر هذه التضحيات وفقًا لما صرح به العديد من المؤرخين.
المصدر: وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) – محطة الفضاء الدولية
وبمرور الوقت، بدأ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية التعاون في جهودهما لتنفيذ رحلات الفضاء. وشهد العام 1975 أول تعاون بينهما في رحلات الفضاء في إطار رحلة “أبولو-سيوز” (Apollo-Soyuz)، الذي تبعه إرسال وكالة ناسا لعدة رواد فضاء إلى محطة الفضاء الروسية “مير” بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991. ومهد هذا التعاون الطريق لناسا ووكالة أبحاث الفضاء الروسية (روسكوزموس) (Roscosmos) لتصبحا شريكين رئيسيين في برنامج المحطة الفضائية الدولية “ISS”، الذي أطلق أول وحداته في العام 1998، وما زال حتى يومنا هذا يواصل تقديم الأبحاث بالتعاون مع 18 وكالة فضاء وطنية.
وأدت هذه البداية في جهود الاستكشاف واستخدام أنظمة الفضاء إلى تطوير العديد من الأقمار الاصطناعية وتحسينها للقيام بمهام مختلفة. وفي الثمانينيات، تم توسيع أقمار الاتصالات لتحمل البرامج والقنوات التلفزيونية، وأتاحت لنا الأقمار الاصطناعية اكتشاف ثقب الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية، وتحديد مواقع حرائق الغابات، واكتشاف نجوم جديدة، وكذلك التوصل إلى صور جديدة لمركز مجرتنا. وازدادت قيمة الأقمار الاصطناعية والأنظمة الفضائية مع استخدامها للأغراض العسكرية مثل تقديم معلومات عن تشكيلات العدو وحركات قواته، والإنذار المبكر عن هجمات العدو بالصواريخ، والملاحة الدقيقة في المناطق الأجنبية والنائية، وكذلك استخدام الأقمار في رصد أحوال الطقس والاتصالات والملاحة والتصوير والاستشعار عن بعد للتغيرات البيئية والمواد الكيميائية والكوارث.
لقد أدت ثورة استكشاف الفضاء وتجارب الإنسان وأبحاثه حول الفضاء إلى العديد من الابتكارات والتطورات التقنية. فهي تساهم في تحسين فهمنا للجسم البشري والتواصل عبر الهواتف الخلوية وقياس التلوث ورصد التغير المناخي وتحقيق الاكتشافات العلمية وتعزيز التعاون مع البلدان في جميع أنحاء العالم، وإجراء العمليات الجراحية المحفوفة بالمخاطر باستخدام التقنيات الطبية المعززة المستوحاة من تقنيات الفضاء، وغيرها في الكثير من القطاعات والتطبيقات التي شهدت تحولات كبرى مستوحاة من تقنيات الفضاء.
وتشمل بعض الأمثلة لهذه التطبيقات “رغوة الذاكرة” (memory foam’)، التي تم استخدامها في البداية لتوفير الحماية في حوادث الطيران، وتستخدم الآن على نطاق واسع في الوسائد والمراتب والأحذية. كما تم ابتكار الساعات الرقمية نتيجة لبرنامج “أبولو”، وكذلك أجهزة قياس الحرارة عبر الأذن التي أصبحت معروفة وتُستخدم الآن على نطاق واسع، وفلاتر الماء والهواء، وأنظمة سلامة الأغذية، وأجهزة المساعدة القلبية، والأطراف الاصطناعية، وأنظمة مقاومة التجمد لمبردات السيارات، وأطعمة الأطفال التي جاءت نتيجة لتجارب إعداد الطعام لرواد الفضاء. كما ساهمت هذه التطبيقات في تطوير التصوير بالرنين المغناطيسي، والكشف عن الدخان وغيرها الكثير، ولا تزال قائمة التطبيقات في تزايد ونمو كل يوم.
وقد وفرت صناعة الفضاء العديد من فرص العمل في مختلف المجالات، مما عزز من كفاءة القوة العاملة، وأثر بشكل إيجابي على النمو الاقتصادي، وشجع الطلاب على الدراسة للحصول على وظائف في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات، وبالتالي إثراء المعرفة والعلوم والاكتشاف والتعليم لتحفيز الابتكار والإبداع والإلهام في مجالات الفن. وهناك العديد من الفوائد غير الملموسة لهذه التطورات، مثل تحسين فهمنا عن الغلاف الجوي للأرض، والنظم الإيكولوجية وتطوير الملاحة وتحديد المواقع الأرضية عبر الأقمار الاصطناعية واستكشاف الكون وإنشاء المحطة الفضائية الدولية وإجراء الدراسات الاستكشافية والبحثية على المدى الطويل. وتعد هذه المعرفة ذات قيمة كبرى يتعذر قياسها وتحديد حجم الإضافة التي تحققها لموسوعة الجنس البشري.
ومع ذلك، هناك بعض الآثار السلبية لاستكشاف الفضاء مثل زيادة الحطام في مدار الأرض، واستخدام المواد الكيميائية التي تزيد من تآكل طبقة الأوزون، التي تساهم بدورها في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. كما أن رواد الفضاء قد يتعرضون أيضًا لبعض الآثار الفيزيائية السلبية نتيجة لمشاركتهم في رحلات استكشاف الفضاء، إضافة إلى التكلفة العالية المرتبطة بهذه الرحلات.
إن الافتراض القائم لدى الكثيرين بأن النفقات التي تُصرف على استكشاف الفضاء والأنشطة ذات الصلة ستكون من الأموال والموارد الحيوية التي يمكن الاستفادة منها في مواجهة الفقر وإطعام الجياع وما إلى ذلك، هو افتراض لا يستند إلى أساس، بخلاف المنطق البسيط الذي يقول إن إنفاق الأموال على أبحاث الفضاء والاستكشاف العلمي سوف ينتج عنه إنفاق قدر أقل من الأموال لمعالجة المشاكل التي نواجهها على الأرض. وعلى الرغم من ذلك، لا يوجد هناك أي ضمان بأن عدم إنفاق الأموال على الأنشطة الفضائية سيعني تلقائيًا أن تلك الأموال ستُستخدم في حل المشكلات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية. وعلاوة على ذلك – بقد ما يتعلق الأمر بالموارد – فهناك العديد من المجالات الأخرى التي يُنفق فيها المزيد من الأموال والموارد ولا يتحقق من ورائها سوى فوائد أقل وضوحًا لخدمة أهداف المساعدات الإنسانية، أو لتخفيف حدة الفقر. لذا، فإن التساؤل المطروح حول استبعاد أنشطة استكشاف الفضاء وتركيز النقاش حول استكشاف الفضاء ومعالجة القضايا العديدة على الأرض باعتبار كل منها منفصلاً عن الآخر وليس مكملاً له، هو أمر غير منطقي.
ومع ذلك، فإن التساؤل عما إذا كان استكشاف الفضاء جديراً بمثل هذه الاستثمارات، يعد أمراً منطقيًا وضروريًا. ومع الأخذ في الاعتبار أن كل التطورات والابتكارات التقنية والمعارف المكتسبة من الاستكشاف (مثل نظم الحياة المترابطة والنظم الإيكولوجية) والثورات في مجالات الاتصالات والنقل والطب والحوسبة والفيزياء الفلكية وعلم الفلك وعلوم الكواكب، جميعها لن تكون ممكنة دون استكشاف الفضاء.
وعلاوة على ذلك، فإن التساؤل حول ما إذا كنا نستطيع معالجة المشكلات على الأرض أم لا دون الاستثمار في استكشاف الفضاء يعد أمرًا يستحق النظر.